بقلم : علي حسين .
لست فيلسوفاً لأنني لا أؤمن بالعقل بما يكفي لأن أؤمن بالأنظمة، فما يروقني هو معرفة كيف يجب علينا ان نتصرف ، وبتعبير أدق ، كيف يتصرف المرء عندما لايؤمن بالرب او العقل ..لست وجودياً مع ان الفلاسفة بالطبع مجبرون على التصنيف . حصلت على انطباعاتي الفلسفية الاولى من الإغريق .وليس من ألمانيا القرن التاسع عشر والتي هي أساس الوجودية الفرنسية الحديثة . لست على يقين انني مفكر ، اما فيما يتعلق بسائر الأشياء الأخرى، فأنا أؤيد الجناح اليساري رغماً عني وعنه”.
ادب لا يخلو من الفلسفة.
تلك الإجابة أراد من خلالها البير كامو ان يغلق السِّجال الذي اثير حول كتابه “الإنسان المتمرد”، وكانت من نتائجه معركة فلسفية بينه وبين صديقه سارتر أدت الى قطيعة استمرت حتى موت كامو . فإذا لم يكن كامو فيلسوفاً وأحد أعمدة الفلسفة الوجودية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، واذا لم يكن مفكراً يمثل الضمير الأخلاقي لجيل ما بعد الحرب ، فمن يكون إذن ؟ هذا السؤال يطرح كلما تطرق احد للحديث عن صاحب الغريب واسطورة سيزيف ، فبالرغم من كتابات كامو في الفلسفة وخصوصاً ما يتعلق بمفهوم العبث والتمرد ، فإن أروع أعماله بالتأكيد هي رواياته التي حاول ان يجمع فيها بين الأدب المتميز والفلسفة المشاكسة . ففي كتابه “أسطورة سيزيف” يعلن كامو: ” ان الروائيين العظماء فلاسفة عظماء ” . وفي عرضه لرواية جان بول سارتر “الغثيان” يضع كامو أساس تمييز الروايات الفلسفية :”ما الرواية إلا فلسفة تمت صياغتها في صور خيالية ، وفي الرواية الجيدة تختفي الفلسفة في ثنايا الصور الخيالية “
وقد اتهم بعض النقاد كامو بأنه أديب لايخلو من الفلسفة وبأنه تصدى لمشكلات فلسفية لم يكن مؤهلاً لها ، وقد جرى هذا الاتهام أيام اشتدت المعركة بينه وبين سارتر حول كتابه “الانسان المتمرد” ، وكان كامو يؤكد ان كتابه هذا هو تأملات مباشرة في قضايا كان له هوس بها ، وهي قضايا في رأيه تميز بها العصر الذي اسهم هو فيه ، كان كامو يتندر في احيان كثيرة فيقول ان افكاره تعطي للجرائد جزءاً من شعاراتها ، :” ما عدت اقول ولو على نحو عابر (عبث) هناك من يحاول ان يجعل من هذه الكلمات مجرد شعارات”
وفي السنين التي كان اسم سارتر يعقبه دائماً اسم كامو ، انكر صاحب المنفى والملكوت ان تكون له صلة بالوجودية . وكان قد صرح “ان الكتاب الوحيد المعني بالأفكار مما نشرت (اسطورة سيزيف) موجهاً ضد ما يسمى بالفلاسفة الوجوديين”. كان اقرب الى نيتشه الذي قرأه بإمعان ، ويحمل تحفظاً إزاء هيغل وماركس:”كنت اطالع كتب الفلسفة كما أقرأ الروايات ، اي طلباً للنور الذي تلقيه على تفكيري”.
ولعل كثيرين يتساءلون ما الذي فعله البير كامو في عصرنا الحديث ، نجد الإجابة في مقدمة كتابه الشهير (الانسان المتمرد) :”ما الذي فعلته سوى انني رحت أجادل حول فكرة وجدتها هائمة في الطرقات “.
طفولة صماء
طفولته كانت فقيرة ، ولد في السابع من تشرين الثاني عام 1913 في مدينة القسطنطينية بالجزائر ، لم يكن يتجاوز السنة الاولى من عمره عندما قتل والده ، الذي كان عاملاً زراعياً ، وكانت والدته عاملة نظافة من أصل إسباني أمية نصف صمّاء . نشأ كامو في شقة صغيرة من ثلاث غرف يتقاسمها مع والدته وشقيقه الأكبر وعمه الأخرس وجدته لأمه . وقد وصف كامو الجو العام لمنزله في مفكرته التي نشرت بثلاثة أجزاء :”أشد ما يشغلني التفكير في غلام كان يعيش في أحد الأحياء الفقيرة ، ياله من حي ، وياله من منزل ، لم يكن يتألف إلا من طابق واحد ودرج لايعرف النور ، كان هذا الغلام يستطيع ان يتحسس طريقه الى هناك في احلك الليالي ، وهو يعرف ان في استطاعته قفز هذه الدرجات دون ان يتعثر ابدا . لقد تملكه البيت وسيطر على مشاعره ، ومازالت قدماه تعرفان المسافة بين الدرجتين من درجات السلم بالإحساس المجرد ، ومازالت يداه تهلعان من قضبان السلم هلعاً غريزياً لايقهر ، وذلك بسبب ما يجري فوقها من الصراصير” .
التحق كامو بمدرسة ابتدائية سنة 1918 ، وفي هذه المدرسة استرعى انتباه اساتذته الذين رشحوه للقبول في مدرسة “الليسيه” ، وبينما كان كامو تلميذا في الليسيه بدأ يَطلع ولاول مرة على الأدب الفرنسي ، ويبدو ان أندريه جيد أثر فيه تاثيراً كبيراً ، كما انه قرأ لفاليري وبروست ، بعدها التحق بجامعة الجزائر طالباً للفلسفة . عام 1956 اصبح كامو حارساً للمرمى في احد الأندية المحلية، : “كانت الرياضة شغلي الشاغل ، فهي المجال الوحيد الذي تلقيت فيه دروس الأخلاق ” .
بعد التخرج من الجامعة اتجه للمسرح ، فانشأ عام 1935 مسرح العمل وقد أعد للمسرح عدداً من الأعمال كان أبرزها قراءة لبروميثوس أسخيلوس ومقاطع من الإخوة كارامازوف لدستويفسكي . وما ان نشبت الحرب حتى تطوع للخدمة العسكرية ، لكنه أعفي من الخدمة لأسباب تتعلق بحالته الصحية . عام 1940 سافر للسكن في باريس وبعد عام اصبح عضواً في الحزب الشيوعي الفرنسي ، لكنه سرعان ما اختلف معه حول قضية الجزائر فترك الحزب ، في باريس اكمل دراسته العليا في الفلسفة وكانت اطروحة تخرجه عن العلاقة بين الفلسفة اليونانية والفلسفة المسيحية ، عام 1942 ينضم للمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الالماني ويتولى ادارة تحرير جريدة المقاومة “كومبا” والتي استمر العمل بها بعد نهاية الحرب ، في تلك الفترة نشر كتابه الشهير “اسطورة سيزيف” ، والذي قدم فيه للمرة الاولى مفهوماً فلسفياً للعبث ، بعدها أصدر أعماله الكبرى: الغريب والطاعون ومسرحيته الشهيرة “سوء تفاهم” ، ثم السقطة والمنفى والملكوت وكتابه الشهير “الانسان المتمرد” ، في اواخر عام 1957 منح جائزة نوبل للآداب وكان في الرابعة والأربعين من عمره ، ويعد اصغر الحاصلين على الجائزة .
العبث لعبة الحياة
شرع كامو في كتابة مقال عن العبث منذ عام 1938 ، اما العمل النهائي الذي انتهى منه على شكل كتاب اسماه “اسطورة سيزيف” فقد أتمه عام 1941 ونشره عام 1943 ، وفي الكتاب يركز كامو على مشكلة الحياة اليومية : “في هذا الكتاب سيتم وصف لعبة الحياة بدقة وتحديد اصولها وقواعدها ” ، وهو يخبرنا بمقدمة الكتاب ان موضوعه يدور حول مرض معين اصيب به العصر ، معتبراً ان الحياة الإنسانية لايفهمها الانسان : ” الاعتراف بأن الحياة لامعقولة وانها ، لكل واحد منا ، ذات قيمة لاتقدر ويزيد من قيمتها وعينا الحاد لرفضها ان تخضع للفهم الانساني ” . يستمر كامو بعد ذلك ليوضح معنى لفظة “العبث” من خلال تتبع سريع لأوضاع الناس اليومية فيقدم امثلة من العبث شائعة الاستعمال :” يتفق ان يتهاوى حولنا ديكور حياتنا اليومية في حطام الرتابة :الاستيقاظ ، وسائط النقل ، اربع ساعات في المكتب او المصنع ، وجبة اكل ، اربع ساعات اخرى من العمل ، الاثنين ، الثلاثاء ، الاربعاء ، الخميس ، الجمعة ، السبت، كلها في نفس الإيقاع ، والطريق يسهل لنا السير في معظم الوقت ، ولكن كلمة (لماذا) تظهر ذات يوم ، واذا كل شيء يبدو متعباً ملوناً بالوحشة ” . أوجه العبث هذه كلها تنتهي ليس بالموت بل باحتضارنا، وما من جهود يمكن تبريريها مسبقاً ازاء الرياضيات الدموية التي تنظم حالتنا ” .. وسبل النجاة كلها مسدودة لأنها جميعا وهمية ، فالأمل الذي تقدمه الأديان او اللجوء الى تفسير ما عن طريق الفلسفة ، ان هو الا اسقاط الانسان في عبثية الوجود ، ولعل خط الحياة السريع ، اننا نموت ونحن نعلم اننا نموت ، وهذا كل ما نعرف عن نصيبنا في الدنيا ، لكننا مرغمون على التفكير بلغة الحياة ، لأن الموت بالنسبة الينا لامعنى له ، يقيننا الوحيد هو حياتنا ، فالمنطق يقتضي بأن نرفض رفضاً عنيفاً فكرة مهادنة الموت ، لأن حياتنا لامعنى لها فيما وراء ذاتها ، ان التمرد على الموت هو الموقف الوحيد الممكن للانسان.
في نهاية اسطورة سيزيف يقول كامو :” انني الآن اترك سيزيف عند الحضيض من جبله ، فالمرء دائماً يعود الى عبثه ، الا ان سيزيف يعلمنا ذلك الضرب السامي من الولاء الذي لايعترف بالآلهة ويرفع الصخور ، الكفاح صعوداً الى القمة كفيل بان يملأ قلب الانسان بالامل ، فعلينا ان نتخيل ان سيزيف وهو يكافح صعوداً الى القمة مع علمه بانه لن يبلغها ، قد يكون رمزا للانسانية جمعاء ، وعظمة سيزيف تتأتى من انه لايستطيع ان يترك للصخرة البقاء في اسفل المنحدر.
صدفة سخيفة
“او ربما كان ذلك بالأمس ، لا ادري على وجه التحديد ، تلقيت برقية من البيت مؤداها ( أمك ماتت .. الجنازة غداً ) ولا يعني هذا اي شيء ، اذ ربما كان ذلك بالأمس ” ، يقرر ان يذهب لدفنها وهو حزين ، لكن بلا شعور بالاهتمام ، ثم يعود الى المدينة ليقابل الفتاة التي يحبها ، ويذهب معها الى السينما ، ثم يذهب مع صديقه الى ساحل البحر ، فيفاجأ ببعض الأشخاص يهددونهم بسكين ، يأخذ ميرسو من صديقه المسدس الذي يحمله خوفاً من ان يتورط بجريمة قتل ، ويفترق الصديقان ، لكن ميرسو يلتقي صدفة من جديد بأعداء صديقه ، ويشهر احدهم سكيناً، ويشاهد لمعان نصل السكين في الشمس التي تضرب اشعتها عينيه ، فيخرج المسدس ويطلق رصاصة على حامل السكين . “صدفة سخيفة” هكذا يقول للقضاة عندما حاكموه ، وهو يشرح لهم كيف انه ذهب لدفن امه ، ثم شاهد فيلماً سينمائياً والتقى بصديقته ، واطلق الرصاص من دون سبب ، وتقرر المحكمة انه يستحق الإعدام رغم تعاطف المحلّفين معه . في اليوم التالي تصفق باريس للكاتب الجديد الذي يريد ان يقول ان مأساة الانسان المعاصر تتلخص في عبث الحياة الذي نعيشه كل يوم ، رواية لا بداية لها ولا نهاية ، لكنها تعكس التحولات التي تجري على حياة الناس كل يوم .
” اما انا فقد كنت أصغي وأسمع انهم يرونني شخصاً ذكياً ، لكنني لم اكن افهم جيدا كيف يمكن ان تصبح سمات شخص عادي تهماً فادحة ” . تقول جيرمين بري في كتابها “البير كامو” : “ربما كان كامو يفكر في سارتر عندما خط هذه السطور من روايته “الغريب” ، غير انها تنطبق عليه شخصياً ، كأنه كان يتنبأ بما سيقدمه للناس ” .
بعد عام على صدور “الغريب” يكتب سارتر في الأعداد الاولى من مجلة الأزمنة الحديثة :” ليست الجريمة الحقيقية هي ما يحاكم ميرسو عليها ، بل هي جريمة اخرى سيفهمها فهماً تاماً في النهاية، عندما يدرك مستوى جديداً من الوعي ، ان رواية الغريب عمل كلاسيكي منهجي مؤلف عن العبث وضد العبث ” . قبل ذلك كان سارتر قد قرأ “اسطورة سيزيف” وهو يعد مسودات كتابه الكبير “الوجود والعدم” فيقرر ان ينشر مقالاً مطولاً عن كامو وسيزيفه فيكتب :”العبث ليس كامناً في الانسان ولا في العالم اذا ما فكرنا في كل منهما بمعزل عن الآخر ، ولكن حيث ان الخاصية المهيمنة للانسان هي الوجود في العالم ، فإن العبث في النهاية جزء لا انفصال له عن الظرف البشري ، ومن ثم لنقل بادئ ذي بدء ان العبث ليس موضوع فكرة مجردة ، وانما يتكشف لنا في استنارة باعثة على الحزن ” .
يكتشف سارتر في الغريب واسطورة سيزيف نمطاً جديداً من الكتابة يستلهم الوجودية لكنه يخلطها بالعبث ، فيما بعد بسنوات يقول سارتر:”الشعور بالعبث يسطع وجه الانسان عند اية زاوية من زوايا الطريق” ونجد في صفحات اسطورة سيزيف كلمات قريبة ممما قاله بطل “الغثيان” ، واذا قلبنا الصفحة الاولى من كتاب كامو سنجد اسم رواية سارتر يشار اليه بشكل واضح :”هذا الغثيان كما يسميه كاتب من كتاب اليوم هو ايضا العبث.”
قطعة العظم هي سارتر
تكتب سيمون دي بوفوار : ” كان كامو قبل خلافه مع سارتر هو الشخص الذي نجد في صحبته مصدراً للاستمتاع والمرح الى اقصى حد ، رأينا في علاقتنا به صفقة كبيرة اذ تبادلنا قصصاً لاحصر لها ، كان بسيطاً يفيض مرحاً ، لكنه في المقابل كان يتحرق شوقا للنجاح والشهرة ولم يكن يخفي هذا ، واعتاد بين الحين والآخر ان يبدو في صورة الشاب الطموح على الرغم من انه معدم لكنه كان بسيطاً رائق المزاج ” .
هذا الذي كتبته دي بوفوار كان قد نشر في كتابها الشبيه بالسيرة الذاتية “قوة الأشياء” ، ونكتشف في خفايا اوراق دي بوفوار انها حاولت ان تقدم نفسها كعاشقة لكنه صدها ما دفعها لأن تكتب في صفحات اخرى من الكتاب :”انه فظ فج ضيق الصدر ” ، ولم تعرف انه راى فيها امراة غير جذابه وانه قال يوماً لميرلوبونتي :” ماذا عساها ان تقول وهي على الوسادة ، يالهول مثل هذه الامرأة المثقفة الثرثارة ، انها شيء غير محتمل” . كانت تعرف ان سارتر معجب بكامو الأديب ، وان هذا الشاب الجزائري ينظر الى صاحب الغثيان نظرة التلميذ ، ووضعت وصفاً مثيراً لها ولكامو ، بأنهما كانا في الايام الاولى يتنافسان على سارتر : ” كنا اشبه بكلبين يتناوبان قطعة عظم ، قطعة العظم هي سارتر وكلانا يريدها.”
سنوات الفراق والخصام
ظل كتاب كامو الشهير “الانسان المتمرد” الذي صدر بالعربية عام 1965 لا يحظى بالاهتمام من القراء العرب الذين وجدوا في روايات صاحب “الغريب ” ومسرحياته متعة تفوق كتبه الفلسفية التي انشغلوا عنها بما كتبه سارتر عن الوجودية وغرائبها ، ولم يعرف القارئ العربي للأسف كامو الفيلسوف حيث طغت صورة المعلم سارتر على صور معظم تلامذته وابناء جيله ، وظل هو وحده الذي يحظى بالاهتمام والمناقشة .. و”الإنسان المتمرد” الصادر عام 1951 اعتبره البعض اسهاماً بارزاً في النظرة المناهضة للماركسية ، واعتبره آخرون فهماً جديداً للفكر اليساري يتصف بالحيوية والنقاء ، وكان من اهمية هذا الكتاب انه اثار هجوماً عنيفاً من قبل مجلة “الأزمنة الحديثة”، وأصبح سبباً في القطيعة الشهيرة مع سارتر .
كان الخلاف بين المعلم والتلميذ حديث باريس ، فقد ندد كامو في المتمرد بالاستبداد الستاليني ، وهاجم سارتر على نحو خفي لتعاطفه مع الحملة الستالينية ، وكما رأى كامو فإن المتمرد لديه عقل مستقل في حين ان الثوري هو شخص تسلطي يعقلن القتل دائما ، وقد حاول كامو ان يبرهن ان العنف دائما غير مبرر حتى اذا كان وسيلة لغاية .
في اجتماعات هيئة تحرير “الأزمنة الحديثة” تجري مناقشات حامية حول المتمرد ، من منهم سيكتب نقداً عنه ؟ اخيرا وقع الاختيار على فرانسيس جانسون الذي كتب مقالة نقدية قاسية اكثر مما طلب منه سارتر ان تكون ، لكنه كرئيس تحرير للمجلة مررها دون اية اضافات او تعديل .
شعر كامو بالخيانة وفي الرد الذي بعثه الى المجلة يعبر عن غضبه ازاء ما اعتبره تشويهاً فاضحاً ومنافياً للذوق لكل ماجاء في كتابه “الانسان المتمرد” ، ورغم ان سارتر لم يكتب شيئاً ضد الكتاب ، إلا أن كامو ظل يعتقد ان محرر المجلة كتب المقال بوحي من سارتر: “اخيراً لا أحد سوى صحيفتكم سيراوده التفكير في الطعن في الدعوى بأنه اذا كان ثمة تطور قد حدث من رواية الغريب الى الطاعون ، فإن هذا التطور مضى في طريق الانسان المتمرد ، لكنكم تريدون ان تثبتوا للأسف انني في هذا الكتاب منفصل عن الواقع والتاريخ ” .
والمقال الذي نشر في 17 صفحة يغمز فيه كامو من قناة سارتر ويحاول ان يصور للقارئ ان كاتب مقال الهجوم على “الانسان المتمرد” هو سارتر لاغيره .
لم يسكت سارتر امام هذا الهجوم الشديد ، فأراد ان يقدم درساً قاسياً لتلميذه فيكتب مقالاً مطولاً في الأزمنة الحديثة :”من المؤسف ان تضعني عن عمد امام محكمة وبمثل هذه اللهجة القبيحة ، بحيث أصبحت عاجزا عن التزام الصمت من دون ان افقد ماء وجهي ، لذلك سوف اجيبك من دون غضب ، ولكن في اسهاب لاول مرة منذ عرفتك . ان جمعك بين تصورات كئيبة وموقف هش حال دائما بينك وبين الناس ، واطلاعك على الحقيقة من دون تجميل او مواربة ، والنتيجة انك اصبحت ضحية زهو اخرق ، يخفي مشكلاتك التي تطوي عليها صدرك .. عاجلاً ام آجلاً سيخبرك احدهم بهذا ، وربما من الأفضل ان اكون انا .”
كانت رسالة كامو حادة ، فجاء رد سارتر موجعاً . تتذكر سيمون دي بوفوار ان انقطاع العلاقات بين سارتر وكامو كان اشبه بنهاية قصة حب ، وهي تعترف انها انحازت الى سارتر وستكتب في قوة الاشياء : ” كامو الذي كان عزيزا علي لم يعد له وجود بالنسبة لي. ”
منذ عام 1951 لم يتحدث سارتر ولا بوفوار مع كامو ، لكنهم كتبوا عنه يوم وفاته بحادث سيارة مقالين منفصلين كانا غاية في الرقة والوفاء لصديق سنوات الخوف والحرية والبهجة، كما وصفه سارتر في نعيه.
موت المتمرد
في نهاية عام 1959 تنشر غاليمار رواية كامو الاخيرة التي كانت اشبه بالسيرة الذاتية ، ولأنه لا يزال يعتبر ان سيمون دي بوفوار ليست طرفا في الخلاف مع سارتر ارسل لها نسخة من الكتاب مع اهداء يقول فيه :”اعرف انك لن تقرئي هذا الكتاب الآن ، لكنه سيثير اهتمامك في يوم من الايام” . لم يكن كامو يعرف انه يتبنأ بنهاية خلافه مع سارتر وبوفوار فبعد اسابيع قليلة يسافر مع صديقه صاحب دار النشر الشهيرة غاليمار ، وفي الطريق تفلت السيارة من السيطرة وترتطم بشجرة ، صباح اليوم التالي كانت بوفوار تجلس كعادتها تقرا في الصحف بصمت ، لتقع عيناها على صورة كامو مضرجاً بدمه ، مع عنوان كبير : “مات المتمرد.”
الوريث الاخلاقي
“يمثل كامو في هذا القرن ،وضد حركة التاريخ ، الوريث المعاصر لتلك السلسلة الطويلة من فلاسفة الأخلاق الذين قد تشكل اعمالهم الأكثر اصالة في الكتابات الفرنسية ، ففي صفائها وبساطتها وحسِّيتها شنت نزعته الانسانية العنيدة حرباً غير مضمونة العواقب على احداث ذلك الزمان، ولكنه على غير ذلك استطاع بصرامة مواقفه الرافضة ان يشدد على وجود الحقيقة الأخلاقية في قلب الحقيقة التاريخية التي نعيش فيها ، ضد انصار الميكافيلية وضد عجل الواقعية الذهبي” ، كانت هذه مرثية سارتر لكامو التي جاءت بعد ايام قليلة على رحيله ، ليقدم فيها اعتذاراً عن سنوات الفراق والخصام و مراجعه لآرائه حول فيلسوف التمرد والعبث.