✍️ جاسب المحمداوي
النخيل الإخبارية
شهد العالم خلال العقود الماضية تحولًا جذريًا في استخدام مصطلح "الإرهاب"، فلم يعد هذا المفهوم يُوظَّف وفقًا لمعايير موضوعية أو قانونية، بل صار أداة بيد القوى الكبرى لتبرير سياساتها، والتلاعب بالرأي العام، وتصفية خصومها السياسيين. لقد أصبح المصطلح مرنًا ومطاطًا إلى الحد الذي يمكن فيه تصنيف جهة ما كمنظمة إرهابية في لحظة، ثم اعتبارها شريكًا سياسيًا مشروعًا في لحظة أخرى، بحسب المصالح الجيوسياسية للدول المتحكمة في النظام الدولي.
هذا ما حدث مع زعيم "هيئة تحرير الشام"، أبو محمد الجولاني، الذي كان يومًا على قائمة الإرهاب الأمريكية، وكان يُعد من أخطر المطلوبين دوليًا، بل وُضِعت مكافأة مالية لمن يأتي بمعلومات تؤدي إلى القبض عليه. ولكن بين عشية وضحاها، تحوّل هذا الرجل إلى شخصية سياسية "مقبولة"، بل وصار يُقدَّم في الإعلام الغربي على أنه زعيم يسيطر على منطقة واسعة في سوريا وله علاقات مع جهات دولية. هذا التناقض الصارخ في التعاطي مع الجولاني ليس سوى مثال حيّ على كيفية استغلال مصطلح الإرهاب لخدمة أجندات القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وحلفاؤها.
الجولاني: من الإرهابي المطلوب إلى رجل السياسة المقبول
عندما اندلعت الأزمة السورية في عام 2011، ظهر الجولاني كأحد أبرز قادة التنظيمات الجهادية، حيث قاد جبهة النصرة، التي كانت الفرع السوري لتنظيم القاعدة. وخلال السنوات الأولى من الحرب السورية، كان يُصنَّف كأحد أخطر الإرهابيين على مستوى العالم، وكانت الولايات المتحدة تُدرجه ضمن "القائمة السوداء"، حتى أنها أعلنت مكافأة مالية كبيرة لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض عليه.
لكن مع تغيّر المعادلات على الأرض، بدأ الحديث عن الجولاني بلهجة مختلفة. لم يعد يُذكر باعتباره "إرهابيًا متطرفًا"، بل أصبح يُصوَّر كقائد سياسي محلي يسيطر على إدلب ومناطق أخرى في الشمال السوري. وبدأ الإعلام الغربي يتحدث عنه بوصفه زعيمًا يحاول فرض "الاستقرار" في المناطق التي يسيطر عليها، بل وظهرت تقارير تشير إلى أن بعض الجهات الغربية تراه حاجزًا أمام النفوذ الإيراني والروسي في سوريا.
هذا التحول لا يمكن أن يُفهَم إلا في سياق التلاعب الأمريكي والغربي بمفهوم الإرهاب. فطالما كان الجولاني يخدم الأجندة الغربية من خلال تفكيك الدولة السورية وإضعافها، لم يعد من الضروري وصفه بالإرهابي، بل أصبح يُنظر إليه كفاعل محلي يمكن التفاوض معه أو حتى توظيفه في الصراع ضد القوى التي تشكل تهديدًا للمصالح الأمريكية في المنطقة.
ازدواجية المعايير في تصنيف الإرهاب
إن التعامل مع الجولاني ليس سوى نموذج لسياسة المعايير المزدوجة التي تنتهجها القوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، في تصنيف الجماعات والأفراد كإرهابيين أو حلفاء، وفقًا للمصلحة لا للمبادئ. فبينما يتم تصنيف المقاومة الفلسطينية ممثلةً في "حماس" على أنها منظمة إرهابية، رغم أنها حركة تحرر وطني تقاوم الاحتلال الإسرائيلي، يتم التغطية على جرائم الكيان الصهيوني وتصوير قادته على أنهم رجال دولة شرعيون.
الأمر ذاته ينطبق على "حزب الله" اللبناني، الذي يُصنَّف إرهابيًا في القاموس الأمريكي، رغم أنه حركة مقاومة شرعية تدافع عن سيادة لبنان ضد العدوان الإسرائيلي. وكذلك "أنصار الله" في اليمن، الذين رغم أنهم يمثلون قوة شعبية تواجه التدخلات الخارجية، إلا أنهم يُصنَّفون كإرهابيين لأنهم يقفون في مواجهة المخططات الأمريكية والخليجية في المنطقة.
أما في العراق، فالفصائل المسلحة التي قاتلت الاحتلال الأمريكي ووقفت ضد مشروعه في المنطقة، تُوصَف بالإرهابية، بينما القوات الأمريكية، التي اجتاحت العراق ودمّرته، تُصوَّر على أنها قوة تحرير ونشر للديمقراطية.
الإرهاب وسيلة لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط
إن الغاية الحقيقية من توظيف مصطلح الإرهاب بهذه الطريقة ليست فقط ضرب الخصوم السياسيين، وإنما إعادة رسم خارطة المنطقة بما يخدم مصالح القوى الكبرى. فقد لعبت الجماعات المصنَّفة إرهابية سابقًا، والتي أعيد تأهيلها لاحقًا، دورًا محوريًا في تمزيق الدول العربية والإسلامية، وتفتيت وحدتها، وتحويلها إلى كيانات ضعيفة ومتناحرة.
سوريا كانت واحدة من هذه الدول التي وقفت تاريخيًا في وجه المشاريع الغربية والصهيونية، ورفضت الرضوخ للإملاءات الأمريكية والإسرائيلية. ولكن بعد الحرب التي دامت أكثر من عقد، تحوّلت إلى ساحة للصراعات الدولية، وأصبحت مناطقها موزعة بين قوى مختلفة، منها الاحتلال الأمريكي في الشرق، والنفوذ التركي في الشمال، والوجود الروسي والإيراني في مناطق أخرى.
وهكذا، فإن "الإرهاب" لم يكن سوى أداة استخدمتها القوى الكبرى لضرب سوريا من الداخل، وتفكيك جيشها، وتدمير اقتصادها، وإضعاف موقفها في أي تسوية مستقبلية.
ما بعد الجولاني: هل يتكرر السيناريو؟
الجولاني ليس سوى حالة واحدة ضمن سلسلة من الجماعات والشخصيات التي يتم تصعيدها ثم ترويضها وإعادة توظيفها وفق الحاجة. فكما حدث معه، قد نشهد في المستقبل إعادة تأهيل شخصيات أخرى كانت تُعتبر في يوم من الأيام "إرهابية"، ثم تتحول إلى "شركاء" أو "رجال دولة"، إذا اقتضت المصالح الغربية ذلك.
في المقابل، فإن القوى والشخصيات التي ترفض الهيمنة الأمريكية أو تعارض السياسات الغربية ستظل على الدوام مصنفة كإرهابية، بغض النظر عن شرعيتها أو عدالتها.
إن مفهوم الإرهاب اليوم لم يعد يحمل أي معنى ثابت، بل صار مصطلحًا فضفاضًا يُستخدم وفق الحاجة السياسية للقوى المهيمنة. فالإرهابي الحقيقي ليس بالضرورة من يرتكب الجرائم ضد الأبرياء، بل من يتعارض مع المصالح الأمريكية والإسرائيلية. وفي المقابل، فإن أي جهة أو شخص يمكن أن يتم تطهيره من تهمة الإرهاب إذا أظهر ولاءً للسياسات الغربية أو خدم أجندتها.
إن خطورة هذا التلاعب بالمصطلحات تكمن في أنه يسهم في خلق فوضى دولية، ويعزز غياب العدالة، ويجعل النظام العالمي قائمًا على القوة والهيمنة بدلًا من القانون والشرعية. ولذلك، فإن مواجهة هذا الخداع تستلزم وعيًا سياسيًا وإعلاميًا، وتطوير خطاب مقاوم يكشف ازدواجية المعايير، ويدافع عن الحقائق بعيدًا عن الدعاية الغربية المضللة.
