الدين والطائفية في السياسة
م . د إبراهيم محمد جبار لويس
الدين تشريع إلهي يشمل الرسالات السماوية كافة ( الحنفية ، واليهودية ، والمسيحية ، و الصابئية ... ) ويجملها تامة وكاملة في الإسلام ، الذي يدعو إلى تطبيقه في حياة الناس . فمن ألتزم تعاليم الإسلام بتطبيقها في حياته على المستوى الفردي والجماعي ، وعلى مستوى الإيمان والتطبيق ، اعتبر متديناً مؤمناً ، فلا يكفي مجرد الولادة من أبوين مسلمين أو أب مسلم ليتحقق عنوان الإيمان والالتزام ، بل لا بد من ذلك بالرؤية والعبادات والسلوك العملي . وميز القرآن بين الانتساب إلى الإسلام والإيمان به بقوله : ( قالت الأعراب إمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ). فالانتساب قهري بالولادة ، والإيمان طوعي بالاختيار والإرادة . بناء عليه يجتمع الإيمان والإسلام في المؤمن ، ولا يجتمعان في المسلم في الولادة أو بتسجيل دائرة الحوال الشخصية ، فعند الدعوة إلى الالتزام يكون الحديث عن الإيمان والتدين ، وليس عن مجرد الانتماء والاتصاف بالإسلام .
أما الطائفية فهي ارتباط أفراد بطائفة معينة مثال على ذلك ارتباط الأفراد بالطائفة المسيحية أو اليهودية لاكتسابهم عنوان دين الطائفة بالولادة ، والتعصب لها لمجرد الانتساب إليها، وهي تشابه العصبية العائلية أو القبلية أو المناطقية مع اختلاف في العنوان وسعة في العدد . ربما أن النظام الطائفي كرس خصوصية الانتماء لكل طائفة ، وحدد لها مجموعة من المكاسب ، وتأثرت الحركة السياسية والنقابية والانتخابية والانمائية والثقافية والإعلامية بهذا المناخ الطائفي ، وأصبحت محكومة له في الكثير من مفرداتها . فلم تعد مباهاة المسلم بانتمائه إلى جماعة المسلمين تعني بالضرورة التزاماً بشريعة الإسلام ، كما ينطبق الأمر نفسه على المسيحيين ، بل على كل فرقة من فرق المسلمين والمسيحيين .
فالترشيح لمقعد انتخابي يحمل عنوان الطائفة ، وشغل الوظيفة في الدولة جزء من حصة الطائفة ، وتوزيع المشاريع الإنمائية يأخذ بالحسبان مناطق الطوائف ونفوذها ، وتوزيع مناصب الحكم والفئة الأولى يرتبط بالتوزيع الطائفي ، ما جعل الارتباط الطائفي والدفاع الطائفي أمراً عادياً ومألوفاً . وانسحب هذا الأمر على المواقف السياسية التي تصادق أو تخالف ، تتحالف أو تعارض وفقاً لحسابات طائفية محلية وإقليمية ، تؤثر على المسار العام ، وتوجد حالة من التباين والتنازع الدائمين في تفصيلات كثيرة ، لارتباطها بالمصالح الخاصة التي تتستر بمصالح الطوائف .
إن الفرق كبير بين التدين والطائفية ، فالتدين التزام والطائفية عصبية ، والتدين لا يشمل كل المنتسبين إلى طائفة معينة بل يقتصر على من التزم منهم ، سواء اكانوا قلة أو كثرة . أما أن يوسم التدين بالطائفية ، لحمل المتدين دين الإسلام ، فهذا مجاف للحقيقة الواقعية .
إن التدين يبني المواطن الصالح الذي ينعكس سلوكه على أدائه في المجتمع ، فهو الأمين والنزية والصادق والمخلص والعامل والمجتهد ، وهو الذي يردعه دينه عن ارتكاب المحرمات ، بسبب إيمانه برقابه الله عز وجل والحساب يوم القيامة . ومهما كان انضباط أي فرد من أفراد المجتمع ، بسبب ردع النظام له أو لقناعة بهذا السلوك ، فإن الإيمان سيكون الأنجح في ضبط حركة الإنسان .
لذا فإن الدعوة إلى التربية الدينية والتعليم الديني في المدارس ، تنطلق من تأثير الدين في السلوك النافع في الحياة ، أذ لم تكن المشكلة يوماً من التدين ، وإنما من التدين ومن المتاجرين بالدين . وإذا دخل التعليم الديني في اللعبة الطائفية وتم البحث عما يرضي جميع الطوائف لتعليم موحد ، فهذا إلغاء للمنطلق الديني المتكامل بحسب وجهة نظر المؤمنين به ، وإحداث لطائفة جديدة تجريد التعاليم عن أصولها وتسطحها بطريقة تفرغها من قدرتها على التربية والتأثير .
وما أسهل النعت بالطائفية في البلدان العربية ، ليسهل على البعض اختصار الطريق وتحييد الخصم المقابل ، وهذا قمع فكري ومصادرة للحريات ، خاصة أن السلوك السياسي العام هو الذي يبين حقيقة أي طرح ويكشف المنطلقات والدافع ، فمن كان متدينا أثبت نفسه وأطروحته، ومن كان طائفياً أسقطته طائفيته فيما لو كان الوزن للمبادئ وليس للطوائف .
وما أسهل إطلاق الشعارات التي تطالب بإبعاد الدين عن مسرح الحياة بحجة معالجة المشكلة الطائفية ، لكن الواقع يثبت بأن الكثير من المواقع الحزبية والقوى والفعاليات ترفع شعارات لا دينية وعلمانية لكنها موغلة في الطائفية من خلال سلوكها السياسي العلمي . فمن الذي يملك سلطة التمييز بين ما هو ديني وطائفي ؟ ولماذا يحق لغير المتدين أن يعبر عن أفكاره وقناعاته بحرية ، ويمنع المتدين من تقدم أطروحته ، بحجج واهية لا تحمل أي معالجة للواقع الطائفي القائم ؟
إن إلغاء الطائفية السياسية يعد المدخل الأفضل والسليم لتخفيف أعباء النظام الطائفي ، ويفسح المجال للتخلص تدريجياً من العوائق العملية التي تميز بين المواطنين ، والتي تؤدي إلى التفاوت في الحقوق والواجبات بين طائفة وأخرى . ويكون مساعداً على الغاء طائفية الوظيفة التي توزع مغانم الدولة محاصصة ، وتعالج سوء الإدارة لتحل الكفاءة في موقعها الطبيعي وتتساوى الحقوق والواجبات بين المواطنين .